حملت الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الألماني مرتكزاتها الثلاثة في عنوانها، فهي تقوم على تقوية سياسة دفاعية نشطة تعزز من قدرات جيشها وعلى مرونة وصلابة في المجتمع تجعله قادراً على تحدي التضليل والتأثير الخارجي وأخيراً على الاستدامة في حماية موارد الحياة والمناخ لقادم الأجيال.
ويتم في الاستراتيجية الجديدة تعريف الأمن القومي بشكل أوسع من ذي قبل على أنه مهمة مدمجة تشمل شؤون الجيش والدبلوماسية وتنويع موارد الطاقة وتأمين المواد الخام وتوجيه السياسة التنموية لخدمة المصالح الاستراتيجية.
كما تشمل صد الهجمات السيبرانية والمعلومات المضللة الهادفة إلى التأثير في الانتخابات والمجتمع ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وأسباب عدم الاستقرار واللجوء في العالم، وهي مدمجة من حيث إيكال مهمة تطبيقها للحكومة والولايات والبلديات والدفاع المدني وفرق الإطفاء وللجامعات ومراكز البحث وشركات القطاع الخاص، كل حسب موقعه.
وتقول وزيرة الخارجية الألمانية التي أدارت الحوارات لصياغة الاستراتيجية الجديدة إن “الأمن لا ينتهي عند تقوية الجيش والدبلوماسية، بل يشمل تأمين الدواء في الصيدلية والماء الدافئ للاستحمام صباحاً”.
سيناريو يرفع التوقعات
إنها المرة الأولى التي يظهر فيها مستشار ألماني مع هذا العدد الكبير من وزراء حكومته لتقديم إحاطة إعلامية.
وفي مشهد غير مسبوق قطع المستشار أولاف شولتز ووزراؤه للخارجية والمالية والدفاع والداخلية مسافة تقارب الكيلومتر تفصل بين مقر الحكومة ومركز الصحافة مشياً على الأقدام وفي جو من التفاؤل المصحوب بالحزم، فما أرادوا عرضه أمام الإعلام هو الاستراتيجية الأولى من نوعها للأمن القومي الألماني والتي تم العمل على صياغتها على مدى عام ونصف.
كان الائتلاف الحاكم في ألمانيا قد أقر صياغة استراتيجية أمن قومي في برنامجه الذي اتفق عليه في ديسمبر 2021، لكن بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 وإعلان المستشار الألماني بعد 3 أيام على الحرب عن “نقطة تحول” مفصلية في أوروبا عموماً وعلى صعيد سياسة ألمانيا الخارجية والعسكرية رفع سقف التوقعات والآمال المعقودة على هذه الاستراتيجية.
في المقابل، انتقدت المعارضة السياسية في ألمانيا بشد الاستراتيجية الجديدة، وصرح فريدريش ميرتس، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، الأكبر في صفوف المعارضة تحت قبة البرلمان، بأن الاستراتيجية المطروحة تفتقد للمحتوى ولا قيمة استراتيجية حقيقية لها وأنها لن تنعكس في السياسة العملية ولم يتم التنسيق بخصوصها، لا مع الداخل ولا مع الحلفاء في الخارج.
فيما قال حزب اليسار بأنها استراتيجية غير مكتملة وقائمة في الأساس على زيادة التسليح وانتقدها حزب البديل اليميني المتطرف، معتبراً أنها لم تضع مصلحة المواطن الألماني أولاً.
ما الجديد في توجهات ألمانيا؟
كانت وزارة الدفاع الألمانية تصدر في السابق “الكتب البيضاء” للإعلان عن توجهاتها الأمنية في كل حقبة، كان أولها في العام 1969 وآخرها صدر عام 2016 في عهد وزيرة الدفاع الألمانية آنذاك والرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين.
ويتم التركيز فيه على تحديات الأمن والإرهاب، وعبرت ألمانيا من خلاله عن رغبتها في لعب دور أكبر على مستوى المهام الدولية تحت راية الأمم المتحدة، ولم يكن يخطر ببال أحد آنذاك أن ألمانيا ستحتاج إلى تدعيم قوتها الدفاعية الداخلية في ظل الأمان الذي كانت تعيشه أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما عدا استثناءات قليلة.
لكن البيئة الأمنية في ألمانيا ومن حولها تغيرت منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، والتي سمّاها المستشار الألماني شولتز من جديد خرقاً للقانون الدولي وتعدياً على المنظومة الأمنية في أوروبا، لذا اعتبرت الاستراتيجية الجديدة روسيا التهديد الأكبر للأمن والسلام في المنطقة اليورو ــ أطلسية على المدى المنظور.
ورغم تكرار هذا الحديث على لسان المستشار الألماني ووزرائه إثر الغزو في أوكرانيا، إلا أنها الوثيقة الأمنية الأولى بهذه القيمة والتي تنص عليه صراحة، بعد أن لعبت ألمانيا لسنوات طويلة في عهد المستشار جيرهارد شرودر والمستشارة أنجيلا ميركل دور الوسيط مع روسيا واعتبرت أن التقارب الاقتصادي سيؤدي إلى مزيد من الأمن والسلام.
وكان العمل آنذاك جارياً على دمج روسيا في تعاون أمني عبر وثيقة روسيا ــ الناتو التي تعود إلى العام 1997.
فشل السياسات السابقة
والاستراتيجية الجديدة تقرّ بفشل السياسات السابقة تجاه روسيا وتدعو إلى تدعيم السياسة الدفاعية وتعزيز قوتها الرادعة لحماية ألمانيا وتلبية ما تستوجبه منها عضويتها في حلف الناتو.
وتنصّ الاستراتيجية الأمنية على رفع الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج القومي بدءاً من العام المقبل، تلبية لقرار اتخذه حلف شمال الأطلسي “الناتو” عام 2014، وكانت ألمانيا مترددة حتى وقت قريب في تنفيذه.
وسيتم الإيفاء بمطلب 2 % في السنوات المقبلة عبر الاستفادة من أموال الصندوق الاستثنائي لدعم قدرات الجيش الألماني والذي أقره البرلمان الألماني العام الماضي بقيمة 100 مليار يورو لعشرة أعوام.
وأكد المستشار على ضرورة الالتزام بهدف 2 % من التمويل بعد نفاد محتويات هذا الصندوق أيضاً، كما أكد على استمرار دعم أوكرانيا للدفاع عن أراضيها وأشار إلى نقاش يجري بين الشركاء في الناتو من أجل صياغة ضمانات أمنية لأوكرانيا بعد وضع الحرب أوزارها دون تحديد لطبيعة هذه الضمانات.
ألمانيا.. دور قيادي
أما من حيث تموضع ألمانيا في المنظومة الأمنية والعسكرية عالمياً فلم تأت الاستراتيجية بالجديد. ورغم ما شهدته لُحمة حلف “الناتو” من ضرر في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب والذي كان ينتقد الحلفاء الأوروبيين بشدة، جاءت الاستراتيجية الجديدة للتعبير عن دم جديد في عروق تحالف الناتو والسعي لتقوية المنظومة الدفاعية الأوروبية.
وهو تأكيد على ما شهده الناتو من تعزيز لدوره في دعم أوكرانيا وفي ظل الإدارة الأميركية الجديدة بعد انتخاب الرئيس بايدن الذي يولي المزيد من الاهتمام لحلفائه الأوروبيين.
وترى ألمانيا موقعها في الاتحاد الأوروبي والناتو وتشير في استراتيجيتها إلى تجاوز العداء نحو الصداقة العميقة مع فرنسا ، ما مهد للوحدة الأوروبية، وإلى أنها مدينة للحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية في رخائها وأمنها.
وتشير الاستراتيجية الجديدة إلى ألمانيا باعتبارها الأكبر في أوروبا من حيث السكان والقوة الاقتصادية وبالتالي إلى ما هو مطلوب منها لتقوية منظومة الدفاع الأوروبي وحلف الناتو، وهي تلمح إلى رغبة ألمانيا في لعب دور قيادي هنا، خاصة وأنها تسعى إلى بناء درع صاروخي أوروبي “سكاي شيلد” وأعلن وزير الدفاع بوريس ببيستوريوس أن 18 دولة أبدت موافقتها المبدئية على المشاركة في هذه المبادرة.
الصين.. خصم أم شريك؟
وفي ما يتعلق بالصين ، لم تشر الوثيقة الأمنية الجديدة إلى ما ذهب إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حيادية ممكنة بعيداً عن الولايات المتحدة، خاصة في مسألة تايوان واحتمالية غزوها من قبل الصين.
الاستراتيجية الأمنية كانت مقتضبة في عرضها للعلاقة مع الصين، فاعتبرتها منافساً اقتصادياً وخصماً على مستوى القيم وطبيعة النظام السائد، وفي نفس الوقت هي شريك لا يمكن دونها التصدي لكثير من التحديات التي يواجهها العالم.
وأشارت الوثيقة الأمنية إلى أن مظاهر التنافس والخصومة تزداد شراسة في الفترة الأخيرة، دون أن تحدد أي آليات لاستيعاب أو مواجهة مثل هذه الخصومة والتنافس الشرس.
وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك والتي طالما كانت هي وحزب الخضر الذي تنتمي إليه تنتقد الصين بحدة في مجال حقوق الإنسان، قالت إن اللونين الأبيض والأسود لا يكفيان لوصف الصين، وإن هناك بالرغم من الاختلاف الكثير من المصالح المتقاطعة، خاصة على صعيد حماية المناخ والتبادل التجاري العالمي. وهي بذلك تقترب من مفهوم المستشار شولتز وحزبه الديمقراطي الاشتراكي والذي يتحدث عن توازن ومقاربة.
وتنصّ الاستراتيجية على ضرورة التخفيف من مخاطر التبعية للصين من حيث الموارد والمواد الخام، سواء لإنتاج الأدوية أو الخلايا الشمسية إلى غيرها، لكن من دون الانفصال عن الصين أو عزلها، وهي اللغة المشتركة التي توافق عليها قادة مجموعة السبع الكبار في قمتهم الأخيرة في اليابان، كما يقول المستشار شولتز.
كما لم تتطرق الاستراتيجية الأمنية إلى مسألة تايوان واكتفت الحكومة الألمانية بالإشارة إلى استراتيجية خاصة بالصين، سيتم الإعلان عنها قريباً، علماً بأن برلين تستعد لمشاورات حكومية مشتركة مع المسؤولين الصينيين الأسبوع القادم.
انفتاح محدود
ألمانيا تقول بإن العالم في المستقبل لن يقبل بفكرة القطبية الأحادية أو الثنائية، وأن دولاً كثيرة في آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا تطالب بدور أكبر على الصعيد العالمي، وهي تريد مع كل هذه الدول ومن ضمنها دول منطقة الشرق الأوسط علاقات تخدم التوجهات الاستراتيجية ولا تقوم فقط على أساس الانتقاء للدول التي تشاركها قيمها.
وفي إشارة شبيهة تريد ألمانيا توجيه سياسة التصدير للأسلحة لتكون في خدمة الاستراتيجية الجيوسياسية. ولكنها لم تعلن ما إذا كان ذلك ينطوي على تخفيف لقيود التصدير لصالح حشد مزيد من التأييد في الدول المعنية.
وطالب المستشار الجميع بترقب مؤتمر صحافي في وقت قريب سيكون مخصصاً للإعلان عن الضوابط الجديدة لصادرات الأسلحة ولم ينس الإشارة إلى أنها ستكون أيضاً صارمة.
مزيد من الموارد
ولا شك أن وضع إطار أعرض لمفهوم الأمن القومي يتطلب المزيد من الموارد والاستثمار، سواء على صعيد رفع قدرات الجيش أو تدعيم البنى التحتية أو التصدي للمعلومات المضللة أو الهجمات السيبرانية بالإضافة إلى متطلبات أمن الدواء والأمن الغذائي وحماية المناخ.
وفي هذا السياق، قال وزير المالية الألمانية كريستيان ليندنر من الحزب الديمقراطي الحر: “إننا ننتقل من زمن عوائد السلام إلى الاستثمار من أجل الحرية والسلام”.
والحديث عن دور أكبر للمجتمع المدني وللمواطن بشكل عام في هذه الاستراتيجية الأمنية يسير في الاتجاه الصحيح، لكن أياً من المسؤولين لم يبين كيف سيتم تمويل تطبيق الاستراتيجية الأمنية على أرض الواقع بعيداً عن تكليف المواطن جهداً إضافيا؟.
فكرة مجلس الأمن القومي
استمر النقاش حول استراتيجية الأمن القومي الألمانية لمدة عام ونصف وكانت فكرة تأسيس مجلس أمن قومي على غرار ما هو معروف في الولايات المتحدة وغيرها ترافق هذا الجدل منذ بداياته. وفي النهاية لم تأت وثيقة الاستراتيجية على ذكره، لا من قريب ولا من بعيد.
المستشار ووزيرة خارجيته أكدا عدم الحاجة لمثل هذا الإطار لتنسيق السياسة الأمنية، ما دام المستشار يدعو لمجلس أمني مصغر يناقش أي تطورات عسكرية وأمنية ويتخذ قرارات عاجلة، كما فعل منذ بدء الحرب في أوكرانيا.
بينما ترى المعارضة أن عدم تشكيل مثل هذا المجلس هو خطأ ونقص كبير وترجع السبب فيه إلى خلاف بين المستشار أولاف شولتز ووزيرة الخارجية أنالينا بيربوك على مرجعية هذا المجلس، أتكون للمستشارية أم لوزارة الخارجية.
وفي ظل هذا الخلاف الذي لم يتم جسره غابت الفكرة التي كانت تصلح لإشراك قطاعات أوسع من المجتمع والأطياف السياسة في وضع الرؤى والاستراتيجيات التي تتجاوز فترة ولاية واحدة أو اثنتين لحكومة ما.
المصدر : وكالات